تحولت الصحة الإنجابية في مصر الى قضية تثير
الجدل ووجبة دسمة تشمل كل عناصر القيل والقال، ولا تخلو من أبعاد
سياسية واستراتيجية. وقضايا الصحة الإنجابية المصرية هي ذاتها التي
يسميها بسطاء المصريين «الخلفة» .
الازدياد السكاني الذي شهدته مصر في النصف الثاني من القرن
العشرين، والذي قفز بعدد المصريين من 26 مليون نسمة في عام 1960
إلى 70.5 مليون في عام 2005، تمكّن من مخاطبة العقول وليس القلوب.
فالازدحام الخانق في كل ركن من أركان الخمسة في المئة من مساحة
الأرض التي يعيش عليها المصريون، وتدهور الاوضاع الاقتصادية،
وابتلاع الموارد أولاً بأول، وتفاقم العشوائيات في المدن الكبرى
نتيجة النزوح الجماعي للملايين من سكان القرى الباحثين عن فرصة ولو
ضئيلة تنتشلهم من قاع الفقر، جعلت البعض يفكر في ان سباق الأرانب
هذه المرة قد ينتهي لمصلحة الأرانب على حساب البشر.
في نهاية التسعينات، أشارت دراسة ميدانية أجراها قطاع السكان في
وزارة الصحة المصرية إلى انخفاض معدل الخصوبة في مصر من 4.3 طفل
لكل سيدة عام 1990 إلى 3.1 طفل لكل سيدة في عام 1999. لكن مع دخول
مصر الألفية الثالثة، اتضح أن هناك حاجة ماسة إلى خفض العدد من 3.1
طفل لكل سيدة إلى 2.1 طفل. إلا أن الحاجة إلى مزيد من الجهود في
هذا الميدان تشوبها الكثير من التعقيدات منها ما هو قديم ومنها ما
استجد في السنوات الأخيرة.
تقول طبيبة أمراض النساء والتوليد الدكتورة هالة مختار التي عملت
لمدة خمس سنوات في وحدة صحة إنجابية في صعيد مصر: «في مطلع
التسعينات، فوجئت بسيدات في عمر الإنجاب كن يترددن على الوحدة التي
كنت أعمل فيها لأسباب مرضية، أي أنهن جئن للعلاج. وحين سألت إحداهن
عن مسألة تنظيم الأسرة، كادت تلطم لأن زميلاً طبيباً كان يجلس على
المكتب المجاور، والحديث عن مثل هذه الأشياء لا يصح في حضور
الرجال». وتتابع: «بعد مرات عدة من تردد السيدة على الوحدة، فهمت
منها أنّها وصديقاتها وقريباتها وجيرانها يعتقدن أن الدورة الشهرية
هي طريقة يتخلص فيها الجسم من الدماء الفاسدة، وانّ تناول المسكنات
لتقليل الآلام المصاحبة للدورة الشهرية يسبب العقم. هذا بالاضافة
إلى عشرات المعتقدات الخيالية التي تؤدي إلى الإصابة بأمراض جنسية
تنتهي بالوفاة».
وإن كان الكثير تم إنجازه في العقد الماضي سيما على صعيد اختراق
«التابو» المفروض على قضايا الصحة الإنجابية، فإن هذا التقبل
البطيء للصحة الانجابية تزامن ومتغيرات دولية ألقت بظلالها على
مبدأ «تنظيم الأسرة في مصر».
قد يبدو هذا الكلام غير منطقي، فكيف يؤثر الرئيس جورج بوش في قرار
أم حسين بأن تنجب للمرة الخامسة. الاجابة بسيطة، لكنها متعددة
الجوانب، ولعل موقفًا كالذي أعلنته جماعة «الاخوان المسلمين» في
مصر قبل أسابيع قليلة في هذا الشأن يوضح الكثير: فقد اعتبر نواب
الإخوان في البرلمان المصري منحة أميركية قيمتها 40 مليون دولار
لتنظيم الاسرة في مصر «مخططاً أميركياً صهيونياً مشتركاً لضرب
تنامي السكان تحت مقولة الانفجار السكاني». وحذر النواب أن ذلك
يخالف الشريعة الإسلامية.
وقال النائب الإخواني علي لبن إن ما تقدمه اميركا «مخططات مشبوهة
للإقلال من نسبة الخصوبة لدى المرأة المصرية، وتقديم وسائل تشجع
على العقم بأدوات مختلفة، إضافة الى ما تسعى إليه من إباحة العديد
من التصرفات التي ترفضها الشريعة الاسلامية مثل الاجهاض».
ليس الاخوان المسلمون الجهة الوحيدة التي تفسر الجهود الاميركية
الرامية الى تنظيم الأسرة المصرية في ضوء نظرية المؤامرة
الإمبريالية، فالمد الديني المتنامي، الذي وصل ذروته هذه الأيام،
اتخذ شكلاً أقرب الى «العند مع اميركا». فمثلاً ظهرت إشاعة قبل
فترة تشير إلى أن احدى الشركات المصنعة للفوط الصحية (شركة بروكتر
اند غامبل) تضع طبقة من مادة تسبب العقم وهو ما دعا الكثيرات إلى
التخلي عن استخدام هذا المنتج.
وعلى رغم أن الرمزين الدينيين الرئيسيين في مصر دأبا على الخروج
بأحاديث أو فتاوى على مر العقود تؤكد شرعية تنظيم الأسرة، فإن هناك
حالة عامة من افتقاد الثقة بين كل ما هو «رسمي» والمواطنين، وهذا
يقابله تنامٍ للتيارات الدينية المستقلة، ورفض لكل ما هو آت من عند
العم بوش.
الإجهاض
ويلجأ بعض النساء في مصر إلى الإجهاض كوسيلة لتنظيم أو ربما تحديد
النسل، وهو غالباً يكون الوسيلة الوحيدة المتاحة بعدما تعذر وقف
حدوث الحمل. وعلى رغم أنه محظور في مصر وتنظر إليه السلطات الدينية
الإسلامية والمسيحية على حد سواء باعتباره أمراً محرماً، فإنه
منتشر، أو على الأقل حدوثه ليس مستغرباً.
وعلى رغم صعوبة الحصول على تقديرات في هذا الشأن، فإن مجلس السكان
(مقره نيويورك) أجرى دراسة في عام 1998 لاستنباط معدلات الإجهاض،
وذلك من معدلات النساء اللواتي تلقين علاج ما بعد الإجهاض في
المستشفيات العامة. خلص الباحثون عندها إلى أن 15 حالة حمل بين كل
مئة حالة، أنهيت من طريق الإجهاض المستحدث. كما خلصت إلى أن نحو 35
في المئة من عمليات الإجهاض في مصر تتم من دون أي إشراف طبي.
ولأن عمليات الإجهاض محظورة قانوناً وغير مقبولة اجتماعياً بل
نفسياً أيضاً، فإن نسبة كبيرة من الأطباء ترفض إجراءها، وهذا ما
يرفع فاتورة إجرائها لدى الأطباء الذين يجرونها في الخفاء. وتتراوح
كلفتها في عيادة الطبيب بين ألف وثلاثة آلاف جنيه مصري. وهو ما
يجعلها بالطبع بعيدة كل البعد عن متناول أيدي الغالبية، وهذا يعني
أن الوصفات البلدية التي كانت متبعة قبل مئات السنين ما زالت
تستعمل، وما زالت تقتل النساء.
من جهة أخرى، فإن برامج الصحة الإنجابية التي تدعمها هيئة المعونة
الأميركية خضعت لتغيير في الأشهر الأخيرة وذلك لتعكس التحولات في
السياسة الخارجية الأميركية. هذه السياسة تمنع إعطاء أية معونات
خارجية لمشاريع تنظيم أسرة تقدم خدمة الإجهاض، أو استشارات في هذا
الشأن، أو تشن حملات تؤيد الإجهاض أو جعله قانونياً.
وإلى أن يتم اتخاذ قرار في تلك القضية الشائكة التي توازي في
حساسيتها قضايا مثل العلاقات الجنسية قبل الزواج، وتعدد الزوجات،
سيتم إجراء عمليات الإجهاض في الخفاء سواء في عيادات الأطباء
الكبار أو الصغار أو بأعواد الملوخية!